وجوب الرجوع إلى السنة وتحريم مخالفتها
الكاتب : محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
" أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوان الكرام: إن من المتفق عليه بين المسلمين الأولين كافة، أن السنة النبوية – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – هي المرجع الثاني والأخير في الشرع الإسلامي، في كل نواحي الحياة من أمور غيبية اعتقادية – أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية وأنه لا يجوز مخالفتها في شيء من ذلك لرأي أو اجتهاد أو قياس، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في آخر (الرسالة): "لا يحل القياس والخبر موجود"، ومثله ما اشتهر عند المتأخرين من علماء الأصول: "إذا ورد الأثر بطل النظر"، "لا اجتهاد في مورد النص" ومستندهم في ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة.
القرآن يأمر بالاحتكام إلى سنة الرسول:
أما الكتاب ففيه آيات كثير، أجتزىء بذكر بعضها في هذه المقدمة على سبيل الذكرى {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
1- قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].
2- وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
3- وقال: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
4- وقال عز من قائل: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 79- 80].
5- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
6- وقال: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
7- وقال: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [لمائدة: 92].
8- وقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
9- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
10- وقال: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13-14].
11- وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 60-61].
12- وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51- 52].
13- وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [لحشر: 7].
14- وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
15- وقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4].
16- وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
إلى غير ذلك من الآيات المباركات.
الأحاديث الداعية إلى اتباع النبي في كل شيء:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: "ومن يأبى؟"، قال : «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» [أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب الاعتصام].
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
«جاءت ملائكة إلى النبي وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيه مأدبة، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها يفقهها، فقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق(1) بين الناس» [أخرجه البخاري] أيضاً.
3- عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فأنطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق» [أخرجه البخاري ومسلم].
4- عن أبي رافع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (وإلا فلا)» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والطحاوي وغيرهم بسند صحيح].
5- عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه (2)، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه» [رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأحمد بسند صحيح].
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم (ما تمسكتم بهما) كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض» [أخرجه مالك مرسلاً، والحاكم مسنداً وصححه].
ما تدل عليه النصوص السابقة:
وفي هذه النصوص من الآيات والأحاديث أمور هامة جداً يمكن إجمالها فيما يلي:
1- أنه لا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله، وأن كلا منهما ، ليس للمؤمن الخيرة في أن يخالفهما، وأن عصيان الرسول كعصيان الله تعالى، وأنه ضلال مبين.
2- أنه لا يجوز التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز التقدم بين يدي الله تعالى، وهو كناية عن عدم جواز مخالفة سنته، قال الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين، 1/58): "أي لا تقولوا حتى يقول، وتأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضي".
3- أن التولي عن طاعة الرسول إنما هو من شأن الكافرين.
4- أن المطيع للرسول مطيع لله تعالى.
5- وجوب الرد والرجوع عند التنازع والاختلاف في شيء من أمور الدين إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم (1/54):
"فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل (يعني قوله: وأطيعوا الرسول) إعلاماً بأن طاعته تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه "أوتي الكتاب ومثله معه"، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول" ومن المتفق عليه عند العلماء أن الرد إلى الله إنما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول، هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وأن ذلك من شروط الإيمان.
6- أن الرضى بالتنازع، بترك الرجوع إلى السنة للخلاص من هذا التنازع سبب هام في نظر الشرع لإخفاق المسلمين في جميع جهودهم، ولذهاب قوتهم وشوكتهم.
7- التحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لها من العاقبة السيئة في الدنيا والآخرة.
8- استحقاق المخالفين لأمره الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
9- وجوب الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره، وأنها سبب الحياة الطيبة، والسعادة في الدنيا والآخرة.
10- أن طاعة النبي سبب لدخول الجنة والفوز العظيم، وأن معصيته وتجاوز حدوده سبب لدخول النار والعذاب المهين.
11- أن من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر أنهم إذا دعوا إلى أن يتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، لا يستجيبون لذلك، بل يصدون عنه صدوداً.
12- وأن المؤمنين على خلاف المنافقين، فإنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الاستجابة لذلك، وقالوا بلسان حالهم وقالهم: "سمعنا وأطعنا"، وأنهم بذلك يصيرون مفلحين، ويكونون من الفائزين بجنات النعيم.
13- كل ما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم يجب علينا اتباعه فيه، كما يجب علينا أن ننتهي عن كل ما نهانا عنه.
14- أنه أسوتنا وقدوتنا في كل أمور ديننا إذا كنا ممن يرجو الله واليوم الآخر.
15- وأن كل ما نطق به رسول الله مما لا صلة بالدين والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة فهو وحي من الله إليه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
16- وأن سنته عليه الصلاة والسلام هي بيان لما أنزل إليه من القرآن.
17- وأن القرآن لا يغني عن السنة، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع، وأن المستغني به عنها مخالف للرسول عليه الصلاة والسلام غير مطيع له، فهو بذلك مخالف لما سبق من الآيات.
18- أن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله، وكذلك كل شيء جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن، فهو مثل ما لو جاء في القرآن لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».
19- أن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو التمسك بالكتاب والسنة، وأن ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة، فلا يجوز التفريق بين كتاب الله وسنة نبيه تسلمياً كثيرا.
لزوم اتباع السنة على كل جيل في العقائد والأحكام:
أيها الإخوة الكرام، هذه النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة كما أنها دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعاً مطلقاً في كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يرض بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمناً، فإني أريد أن ألفت نظركم إلى أنها تدل بعموماتها وإطلاقاتها على أمرين آخرين هامين أيضاً:
الأول: أنها تشمل كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى: {لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [سورة الأنعام: 19]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سورة سبأ: 28]، وفسره بقوله في حديث: «... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» [متفق عليه]، وقوله : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» [رواه مسلم].
والثاني: أنها تشمل كل أمر من أمور الدين، لا فرق بين ما كان منه عقيدة علمية، أو حكماً عملياً، أو غير ذلك، فكما كان يجب على كل صحابي أن يؤمن بذلك كله حين يبلغه من النبي أو من صحابي آخر عنه كان يجب كذلك على التابعي حين يبلغه عن الصحابي، فكما لا يجوز للصحابي مثلاً أن يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في العقيدة بحجة أنه خبر آحاد سمعه عن صحابي مثله عنه، فكذلك لا يجوز لمن بعده أن يرده بالحجة نفسها مادام أن المخبر به ثقة عنده، وهكذا ينبغي أن يستمر الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كان الأمر كذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين كما سيأتي النص بذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
تحكم الخلف بالسنة بدل التحاكم إليها:
ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا السنة النبوية وأهملوها، بسبب أصول يبناها بعض علماء الكلام، وقواعد زعمها بعض علماء الأصول والفقهاء المقلدين، كان من نتائجها الإهمال المذكور الذي أدى بدوره إلى الشك في قسم كبير منها، ورد قسم آخر منها لمخالفتها لتلك الأصول والقواعد، فتبدلت الآية عند هؤلاء، فبدل أن يرجعوا بها إلى السنة ويتحاكموا إليها، فقد قلبوا الأمر، ورجعوا بالسنة إلى قواعدهم وأصولهم، فما كان منها موافقاً لقواعدهم قبلوه، وإلا رفضوه، وبذلك انقطعت الصلة التامة بين المسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة عند المتأخرين منهم، فعادوا جاهلين بالنبي وعقيدته وسيرته وعبادته، وصيامه وقيامه وحجة وأحكامه وفتاويه، فإذا سئلوا عن شيء من ذلك أجابوك إما بحديث ضعيف أو لا أصل له، أو بما في المذهب الفلاني، فإذا اتفق أنه مخالف للحديث الصحيح وذكروا به لا يذكرون، ولا يقبلون الرجوع إليه لشبهات لا مجال لذكرها الآن، وكل ذلك سببه تلك الأصول والقواعد المشار إليها، وسيأتي قريباً ذكر بعضها إن شاء الله تعالى.
ولقد عم هذا الوباء وطم كل البلاد الإسلامية، والمجلات العلمية والكتب الدينية إلا نادراً، فلا تجد من يفتي فيها على الكتاب والسنة إلا أفراداً قليلين غرباء، بل جماهيرهم يعتمدون فيها على مذهب من المذاهب الأربعة، وقد يتعدونها إلى غيرها إذا وجدوا في ذلك مصلحة – كما زعموا – وأما السنة فقد أصبحت عندهم نسياً منسياً، إلا إذا اقتضت المصلحة عندهم الأخذ بها، كما فعل بعضهم بالنسبة لحديث ابن عباس في الطلاق بلفظ ثلاث وأنه كان على عهد النبي طلقة واحدة، فقد أنزلوها منزلة بعض المذاهب المرجوحة، وكانوا قبل أن يتبنوه يحاربونه ويحاربون الداعي إليه!!
غربة السنة عند المتأخرين:
وإن مما يدل على غربة السنة في هذا الزمان وجهل أهل العلم والفتوى بها، جواب إحدى المجلات الإسلامية السيارة عن سؤال: "هل تبعث الحيوانات..." ونصه:
"قال الإمام الآلوسي في تفسيره: "ليس في هذا الباب – يعني بعض الحيوانات – نص من كتاب أو سنة يعول عليه يدل على حشر غير الثقلين من الوحوش والطيور".
هذا كل ما أعتمده المجيب ، وهو شيء عجيب يدلكم على مبلغ إهمال أهل العلم –فضلاً عن غيرهم– لعلم السنة، فقد ثبت فيها أكثر من حديث واحد يصرح بأن الحيوانات تحشر، ويقتص لبعضها من بعض، من ذلك حديث مسلم في "صحيحه": «لتؤدون الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»، وثبت عن ابن عمرو وغيره أن الكافر حين يرى هذا القصاص يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}.
أصول الخلف التي تركت السنة بسببها:
فما هي تلك الأصول والقواعد التي أقامها الخلف، حتى صرفتهم عن السنة دراسة واتباعاً؟ وجواباً عن ذلك أقول:
يمكن حصرها في الأمور الآتية:
الأول: قول بعض علماء الكلام: إن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، وصرح بعض الدعاة الإسلاميين اليوم بأنه لا يجوز أخذ العقيدة منه، بل يحرم.
الثاني: بعض القواعد التي تبنتها بعض المذاهب المتبعة في "أصولها" يحضرني الآن منها ما يلي:
تقديم القياس على خبر الآحاد (الإعلام 1/327و300 شرح المنار ص623).
رد خبر الآحاد إذا خالف الأصول (الإعلام 1/329، شرح المنار ص646).
ج - رد الحديث المتضمن حكماً زائداً على نص القرآن بدعوى أن ذلك نسخ له، والسنة لا تنسخ القرآن (شرح المنار ص647، الأحكام 2/66).
د - تقديم العام على الخاص عند التعارض، أو عدم جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد!! (شرح المنار ص289-294 ، إرشاد الفحول 138-139-143-144).
هـ - تقديم أهل المدينة على الحديث الصحيح.
الثالث: التقليد، واتخاذه مذهباً وديناً.
والحمد لله رب العالمـين.
http://www.noo1.net/vb/showthread.php?t=373